الخميس، 17 نوفمبر 2011

عبقرية ماركس: الرد على جاهلية العقاد .. !





مقدمة:
لطالما كنت حذرا في قراءة كتابات محمود عباس العقاد ، التي تتميز كتاباته بالنقد الحاد و الفكر الشمولي و الاستقلالية الى حد كبير ، الا ان كتاب الشيوعية و الانسانية و كتاب افيون الشعوب[i] هما من اكثر الكتب تزويرا و تشويها للفكر الماركسي ، و اردت ان اطرح مادة نقدية تعطي الاولوية للحقائق التاريخية بعيدا عن الاباطيل و الكذب و الجهل و الافتراء. و لا يسعني في هذا المقال القصير ان ارد على كل ما قيل في كتب العقاد ، لكن سأحاول أن اظهر الحقائق و ارد على اهم المغالطات ، و الغرض هنا التصحيح لايدلوجية لعبت دورا جوهريا في تاريخ الانسانية. مع العلم ان محمود عباس العقاد كان اهم مدخل بالنسبة لي: للقراءة و البحث و الاطلاع ، و كان ناقدا بارعا في الرد على خصومه ، الا انه ايضا لم يكن رمزا مقدسا و لا كاتبا معصوما ، و بغض النظر ما اذا كانت كتب العقاد هي تشويهاً متعمدا او مغالطات من دون قصد ، فهذا لن يغير من غاية البحث و اهمية المصداقية الموضوعية في الطرح الذي اتبناه.

لكن لماذا الدفاع عن ماركس بالذات ؟ هل عبقرية ماركس وصلت الى حد استثنائي؟ في الحقيقة ان عبقرية ماركس مشابهه الى حد كبير عبقرية الكثير من الفلاسفة من ناحية القدرة على البحث و النقد و طرح الحلول في مسائل فلسفية معقدة. الا ان ما يميز ماركس هو انه لم يكن يطرح افكاره بطريقة بحته و لا في الخوض في مسائل فكرية بطريقة مجردة و لا حتى في حلّ المعضلات الفلسفية بدون العودة الى الواقع الاجتماعي الذي نشأت فيه تلك الافكار. انه على عكس الفلاسفة السابقين ، يفهم الانسان و المجتمع لكي يفهم الوعي ، و ليس على العكس. و اختلاف عبقرية ماركس عن بقية الفلاسفة هو في تحويل الفلسفة من مجرد افكار حبيسة العقول الى تطبيق عملي للافكار الفلسفية ، اذن ماركس هو من اوائل الفلاسفة العمليين ، حيث قال انجلز في وصف الايدلوجية الماركسية: "ان الماركسية ليست دوغما ، بل هي جدول عمل" ، بما معناه: ان الفلسفة الماركسية ليست فكرة متحجرة بل هي فكرة تواكب الواقع المتغير و لها صلة وثيقة في فهم الكارثة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية التي تتسبب فيها الراسمالية ، و في دراسة التناقض بين المصالح في المجتمع نفسه و في المجتمعات الاخرى و تقدم دراسة علمية لآلية التغيير و تطرح رؤية جديدة لمجتمع افضل ، و لا يمكن تبني الماركسية بدون تطبيق لان هذا يتناقض مع مبادئ المنهج الماركسي. و لا يعود الفضل وحده لعقل كارل ماركس الذي استطاع ان يقتحم المجهول ، بل انها الحقبة الثورية المليئة بالتناقضات التي اثارت فضوله ، و الارث الثقافي و التطور الصناعي الذي خلفته الثورة الفرنسية و نشوء طبقات جديدة في المجتمع الحديث مما ادى الى نشوء جيل راديكالي في اوروبا. و كان هناك ردة فعل ضد النظام الجديد ، النظام الراسمالي ، و كان ايضا هناك عودة الى افكار التنوير في الجامعات ، حيث راجع برونو باور افكار هيغل و حوّلها الى نقد ليبرالي للمجتمع الالماني. كما ان ستراوس انتقد العهد الجديد من الانجيل مثل انتقاد فولتير للعهد القديم ، و فيوربارخ تبنى المنهج المادي في نقد سلطة الكنيسة ، و كارل جرون يحشد الاتباع و ينادي بأشتراكية حقيقية لتنوير الرجال من كل الطبقات للحصول على مجتمع افضل من الاقطاع و اكثر عدالة من الراسمالية ، ماركس و انجلز هما نتاج تلك الحقبة.[ii]




دفاعا عن صاحب المذهب:

استخدم العقاد منهج التحليل النفسي بطريقة عجيبة غريبة حتى على المدرسة الفكرية التي ينتمون اليها المحللين النفسيين ، حيث حاول العقاد ان يستخدم منهج التحليل النفسي في فهم شخصية لها اثر اجتماعي و سياسي بالغ الاهمية ، فكان الاسلوب هو اختلاق العلل النفسية بطريقة عشوائية. وفي دراسة الايدلوجيات السياسية يتوجب على المفكر ان يستند على علم الاجتماع و ان يبحث خلف الاسباب التي ادّت الى ظهور هذه الايدلوجية و اثرها في التاريخ. وكان نموذج التحليل النفسي يطرح اطروحات صارمة على حساب الظروف السياسية و الاقتصادية التي ادّت الى ظهور كارل ماركس بهذا المظهر الغير جذّاب في نظر مولانا العقّاد. فأخذ الكاتب يقتبس اقتباسات لا علاقة لها بسياقها التاريخي لانه يعتمد على التحليل النفسي بالدرجة الاولى لا على التاريخ و لا على علم الاجتماع ، فأصبح يختلق العلل الواهية و يغوص في اعماق شخصية يجردها تجريدا تاما من المجتمع الذي نشأت فيه ، فلا يهم في نظره الظروف التاريخية بل انه يحلل الشخصيات من منطلق اخلاقي كما لو ان الاخلاق مطلقة.  أن الاخلاق متحركة و متغيرة بتغيير الظروف الاجتماعية ، فليس من المنطق ان نقارن اخلاقيات الفراعنة بـأخلاق المجتمع المصري اليوم ، و ايضا ليس من المنطق ان نقارن بين اخلاق القبائل المشاعية البدائية بأخلاق المجتمع الذي نشأ فيه كارل ماركس. لو استخدم الكاتب نفس هذا المنهج مع كل الشخصيات التاريخية لوجد ان الامراض النفسية تسيطر على كل الشخصيات التاريخية بما فيهم الاتقياء و الصالحين ، لكن على المرء ان يفهم المجتمع الذي نشأت فيه هذه الشخصية قبل ان يتهمها بأي اتهام و الا لاصبحت هذه الاتهامات باطلة لانها لا تتفهم الحقبة الاجتماعية التي افرزت هؤلاء المفكرين. لهذا فأن العقاد كان على خطأ عندما تسائل: ما اذا كان "ماركس انسان صالح اخلاقيا في أي مجتمع كان؟!"[iii] ، لان هذا تسائل خارج عن السياق التاريخي!

و من الغريب ان العقاد متأثر بالفلسفة الالمانية الا انه لا يفهم اي شيئ عن تاريخ المانيا ، و لو كان يفهم شيئا عن تاريخ الالمان لأختلف الطرح في كتاباته. فقد وصف الكاتب ان ماركس كان "عاجزا عن العثور على عمل" ، و هذا صحيح ، لان ماركس كان من الهيجليين اليساريين في مقتبل عمره ، و عندما تخرج من الجامعة و اراد ان يصبح استاذا في احد الجامعات ، حينها وجد ان معظم اليساريين تعرضوا الى اقصاء و تم طردهم من الجامعات ، حيث تم طرد فيورباخ من منصبه عام 1832 ، و تم منع برونو باور من الاستمرار في التدريس في الجامعة في عام 1841 ، و تم اغلاق "الجريدة الريانية" التي كان ماركس رئيس تحريرها عام 1843 ، و امتنعت دار النشر عن اصدار كتبه ، و كان مطاردا منفيا ملاحقا من قبل السلطات بسبب نقده للاستغلال و القمع و الدكتاتورية. ذهب بعد ذلك الى باريس ، و تم نفيه منها بسبب افكاره الثورية ، فلم يكن ماركس كسولا و لم يتسكع في قائمة العاطلين عن العمل بسبب اختياره ، بل لقد عجز العقاد عن فهم الظروف السياسية في تلك الحقبة الثورية في اوروبا.

وقد اخطأ العقاد خطأً ذريعاً عندما اطلق على احد الكتب عنوان الشيوعية و الانسانية ، اين الانسانية في تهميش موضوع الفقر و التهكم على المرضى و الاستخفاف بحالات الوفاة المتكررة في عائلة ماركس. حيث قال العقاد ايضا ان ماركس لا يهتم بصحته بل و "يأكل بيض السمك" ، و يعاني من "اعتلال بنيته ينبئ عن وهن اصيل في التركيب"[iv] ، و كل هذا ينبئ في الحقيقة عن شخصية العقاد الساخرة من المرض و الساخرة ايضا من اصحاب الاعاقات ، فكان قاسيا حتى مع طه حسين و قال ان الناس دائما يتعاطفون مع اصحاب العاهات. بينما في الحقيقة ، عاش كارل ماركس حالة يرثى لها من الفقر المدقع ، و مع ذلك .. كافح بكل قواه و رغما عن المرض و الالم ، استطاع ان يكتب كتابات هزّت العالم و استطاع ان يشارك في تأسيس مؤسسات ديمقراطية تحارب النظام الراسمالي.

ويواصل العقاد الاتهامات الباطلة و حديثه الفارغ بخصوص عائلة ماركس و "عقدة الولد الاول - المدلل"[v] ، كما لو ان الابن الاول هو مشروع فاشل بشكل حتمي. و بعد كل هذا الهراء ، يرجع العقاد و ينتقد ماركس بسبب دينه اليهودي و هنا اصبح لكل ديانه نظره نفسية مختلفة عن الاخرى ، ثم يلوم والد ماركس انه غيّر ديانته و ديانة ابنه الى المسيحية من اجل المال ، فأصبحت عائلة ماركس على خطأ سواء كانت مسيحية او يهودية لان كلى الديانتين تعجّ بالعلل النفسية. و الحقيقة التي غابت عن مولانا العقاد ، هو ان والد ماركس لم يغيّر ديانته لسبب المال ، بل يجب ان نعود الى مجتمع ماركس كي نكشف الغطاء عن الاسباب الاجتماعية و السياسية التي ادّت الى هذا القرار ، ان اليهود كانوا محرومين من ممارسة المهن الاختصاصية بقرار من الحكومة الالمانية الرجعية ، فلم يكن والد ماركس قادرا على ان يتوظف في المحاماة بسبب انتمائه للدين اليهودي ، حينها اضطر ان  يتحوّل عن دينه اليهودي الى دين الدولة المسيحية ، و بغضّ النظر عن عمر كارل ماركس الذي يزعم العقاد انه كان ابن السادسة عندما تحول من اليهودية الى المسيحية ، و ان هذا ساهم في المزيد من الكوارث النفسية التي ظهرت بعد ان غيّر دينه. و لكن ما الفرق بين شخص يتم تهويده او تنصيره وهو في المهد او شخص يتم اقناعه و هو في سنّ السادسة ، و من المؤكد ان الكثير من الصحابة عانوا معاناة مشابهه عندما نشروا الدعوة في الارجاء المعمورة ، فهل قالوا: يجب ان نتوقف عن نشر الدعوة في القبيلة الفلانية لان عندهم اطفال ستتأزم حالتهم النفسية عندما يتم اقناعهم بأن لا جدوة من ديانتهم القديمة؟! بل وصل الحدّ بالعقاد الى الايمان بمنهج المؤامرة في التحليل ، فحتى لو ان ماركس انتقد اليهودية في مقال: "المسالة اليهودية"[vi] ، فيعتبر في نظر العقاد: مجرد تحايل ، بل انه يهودي حتى لو انكر يهوديته او انتقدها. بل ان التزوير و الجهل وصل بالعقاد ان حمّل ماركس ذنب انتحار بناته بسبب عنف والدهم الذي لا يعرف معنى الحب و العاطفة. هنا يجب ان نتوقف قليلا و نرد على هذه الاباطيل: ان بنات ماركس .. انتحروا بعد وفاة ماركس بعدة سنوات ، اما البنات الاخريات فمعظمهم وافتهم المنيّة في مقتبل العمر بسبب الامراض ، و احد بنات ماركس توفيت بسبب مرض السرطان ، و وصل الامر الى ان ماركس كاد ان يقفز الى القبر وهم يضعون جثة احد بناته الصغار ، و يتسائل بعدها العقاد اين الحب و العاطفة و الانسانية في حياة ماركس و انا اتسائل اين الموضوعية و المصداقية في طرح العقاد.[vii]

ومع ذلك ، لم تكن شخصية ماركس شخصية ملائكية و لا هي شخصية معصومة عن الخطأ ، بل كان رجلا ساخرا مشاكسا و خاض العديد من المعارك الفكرية خصوصا مع الطوباويين الاشتراكيين و الغوغائيين الاناركيين ، و هذه الجدالات الحادة لم يكن سببها "غرور و غيرة ماركس" على حد تعبير العقاد ، بل لان الماركسية منهجا متماسكا ، فلذا اخذ ماركس افكاره بجدية و تماحك مع المنظرين الثوريين من جهه و الاقتصاديين السياسيين من جهه اخرى ، و اختبر افكاره على ارض الواقع ، و انزل الفلاسفة من السماء الى الارض ، و قال: ان الفلاسفة فسّروا العالم بعدة طرق لكن على الفيلسوف الحقيقي تغيير العالم و ليس الاكتفاء بتفسيره"[viii]. فنقاش ماركس مع ويتلنج كان لسبب الدفاع عن اهمية النظرية العلمية لان العالم لا يتغيّره الشعارات و الهتافات بل ان مهمة الماركسيين هي دراسة التحولات و التغييرات الاجتماعية و تعميم تجارب التحرر و دراسة اخفاقاتها و اعتبار نجاحاتها كمرجع لتاريخ الصراع العمالي. ويتلنج لم يكن يهتم بالعلم بل انتقد المنظرين و النظريات ، و كان يراهن على الحركة الشعبية بمعزل عن النظرية العلمية بل و الادهى و الامر انه كان لا يعول على العمال بل يعتقد ان ليس بمقدورهم ان يهزموا النظام البرجوازي بل هذا مهمة النخبة في الدفاع عن مصالح الطبقة الكادحة و اختطاف السلطة من الطبقة الحاكمة. لذا عندما قال ويتلنج: "الطبقة العاملة لا تحتاج الى نظرية و لا الى منظّرين"[ix] ، رد عليه ماركس: "ان الجهل لم يسعف احدا قط" ، قال "الجهل"و لم يقل "الغباء" كما يزعم العقاد ، و لم يكن نقاشا شخصيا و لا كرها و لا حقدا ، لكن العقاد صنّف ماركس من اصحاب المكائد ، و هذا تسطيح للنقاشات الثورية الحادة في المؤتمرات العمالية. بل ان نقاش ماركس مع ويتلنج كان نقاشا بين من يؤمن بالثورة من الاعلى و من يؤمن بالثورة من الاسفل ، فماركس يؤمن بالثانية .. لان الثورة في نظره ليست مجرد الاطاحة بالسلطة و اختطافها من قبل اقليّة اخرى مختلفة عن الاقلية الحاكمة ، بل انه يؤمن بأن الثورة من الاسفل لا تغيّر المجتمع بأسره وحسب بل تغيّر الثائر الذي يجد نفسه في الثورة و يتعلم من الثورة نفسها و يطور افكاره و يتعلم السياسة بالممارسة. كما ان نقاشات ماركس مع باكونين و برودون كانت اكثر حدة ، و لكن كان كل ذلك ليس محاولة من ماركس للاستعلاء و الغرور و الازدراء ، بل هو دفاعا عن مصلحة الطبقة العاملة ضد اشتراكية البرجوازية الصغيرة او الاشتراكية الغير بروليتارية عموما[x]. يبدوا ان العقاد ليس على درايه الا ببعض الاقتباسات الخارجة عن السياق ، و يحللها بطريقة عشوائية و بمعزل عن الاحداث السياسية.

ان رسائل ماركس و انجلز تعتبر مصدراً هاما ، حيث تستعرض الرسائل بكل وضوح: حياة ماركس بين الحماس الثوري و نشاطه العملي من جهه ، و المرض و الفقر من جهه اخرى. و لكن على القارئ ان يقرأ الرسائل كاملة و ان لا يكتفي بأقتباسات العقاد المختصرة التي لا غاية لها سوى التشويه و التدليس و العرض المغلوط للحقائق. فصحيح ان انجلز غضب على ماركس بسبب بروده اتجاه خبر وفاة عشيقته ، مع العلم ان عشيقة انجلز لم تقبل حتى ان تصافح ماركس بل كانت علاقتها يشوبها التوتر و الكراهية. الا ان هذا ليس السبب خلف برود ماركس ، بل بسبب الكارثة المادية و الصحية التي كانت تتعرض لها عائلة ماركس في ذلك الحين. حيث قال ماركس لانجلز: "لي اكثر من اسبوع لا استطيع الخروج ، ملابسي بالية ، و لقلة المال لا استطيع ان اشتري لحم .. لا املك تكلفة العلاج و اصبح منزلي عبارة عن مستشفى!" ، و هذه ليست مجرد شكاية كما يزعم العقاد ، بل رسائل خاصة بين انجلز و ماركس.[xi] و اعتذر ماركس لانجلز ، و كانت تلك الحادثة هي الحادثة الوحيدة التي غضب فيها انجلز من ماركس. كان انجلز يدافع عن ماركس و يدعمه بالمال بستمرار ، و لو بحثنا في الرسائل لوجدنا ان غاية انجلز من العمل في مصانع والده هو ليس حب التجارة ، بل انها كانت الطريقة الوحيدة التي كان يستطيع فيها انجلز ان يدعم ماركس كي ينهي كتابه "رأس المال". و قال ماركس مدافعا عن حرية الكتاب و اهمية المال كوسيلة و ليس كغاية للكاتب: "يجب ان يحصل الكاتب على المال كي يعيش و يكتب ، لكن يجب ان لا تكون الكتابة غاية للتكسب و الحصول على الثروة". و عندما استطاع ماركس ان ينشر المجلد الاول من الكتاب ، باع انجلز حصته الذي ورثها من ابيه ، و قام انجلز بالرقص و الضحك و الغنا كالمجنون فرحا و احتفالا بالتخلص من اعمال التجارة ، و انتقل من مانشستر الى لندن ليسكن بالقرب من صديقه الحميم ماركس. و مع ان يوجد تناقض مخيف بين حياة الرجلين: ماركس و انجلز ، في مستوى المعيشة و حجم الثروة ، الا ان انجلز استخدم منصبه في شركة والده لدراسة ظروف الطبقة الكادحة ، حيث ان اول كتاب له كان: "احوال الطبقة العاملة في انجلترا" ، حيث قال في الكتاب: "هناك أناس صالحين لكنهم يعيشون في بيئة غير صالحة للمعيشة". و استمر انجلز في مشاريعة الثورية عن طريق دراسة الاقتصاد البرجوازي في الوحدة الانتاجية (المصنع او الشركة) و اخذ يقرأ بعض الاوراق المحاسبية لدى شركة والده كي يحسب فائض القيمة و كي يفهم حجم الاستغلال الذي يسيطر على الطبقة العاملة. بعد ذلك ، كان انجلز يتجول في الاحياء الفقيرة و يقابل العمال و هو متنكر و يحاول فهم مستوى الوعي العام و نشر الفكر الثوري ، و قد كان من اوائل المنظمين لاول نقابة بيريطانية بأسم مستعار. و ايضا لم تكن الرسائل عبارة عن اطروحات اخلاقية و لا تعتبر مصدر روحاني للباحثين حتى يصفها العقاد: "بالاعتلال الروحي". بل يوجد كثير من الحقد و الكراهية ، حيث صدق العقاد في ذلك التصور الضيق الافق. الا ان هذا الحقد لم يكن حقدا عاما ، بل كان حقدا طبقيا نابعا من منهج علمي في فهم الصراع الطبقي و نقد الاقتصاد السياسي. و الخلاصة ان العقاد لم يفهم اولا العلاقة و الغاية التي جعلت من انجلز ممولا لكتب ماركس الذي لم يستطيع الحصول على وظيفة من قبل الصحف و الجامعات بسبب افكاره الثورية ، الا في جريدة نيويورك تايمز لفترة وجيزة ، حينها كان انجلز يكتب معظم المقالات بدلاً من ماركس و ذلك بسبب ضعف ماركس في اللغة الانجليزية في تلك الحقبة ، مع العلم ان ماركس اتقن الانجليزية و الروسية في السنوات الاخيرة من حياته.[xii]

و لم اقرأ تحليلا ضعيفا مثل تحليل العقاد بخصوص المسالة الوراثية ، و انتقاد الديانة اليهودية بأنها تحمل صفات وراثية معينة ، وهذا نقدا تعيسا يعج بالمغالطات ، حيث لا يوجد خصائص وراثية تتعلق لا بالمسلم و لا بالمسيحي و لا باليهودي. فلا اعتقد ان الديانه اليهودية هي احد الاسباب التي شكّلت شخصية ماركس ، مع العلم ان ماركس اغترب اكثر من مرة في حياته: الاولى عندما عاش يهوديا في صباه في المانيا ، و الثانية عندما اصبح شيوعيا مطاردا من قبل الحكومات الاوروبية. و عندما كان ماركس يهودي في صباه كتب مقالا في المدرسة: " لا يسعنا ان نتخذ المهنة التي نحسب انها تناسبنا. لان علاقاتنا في المجتمع تبدأ بالتبلور الى هذا الحدّ او ذاك قبل ان نحتلّ ذلك الموقع الذي يتيح لنا ان نبلور هذه العلاقات". فقد شعر ماركس بالاغتراب اليهودي في سنّ باكر ، و حاول ان لا ينتقد هذا الاغتراب المسيس عن طريق الاستناد للدين اليهودي نفسه ، بل عن طريق فهم التاريخ و فهم العلاقات الاجتماعية التي تحدد مجرى التاريخ. اما بخصوص ان اليهودية تلك الديانة التي لا تخلوا من العقد النفسية و الحقد و الكراهية ، فهذه كلها اباطيل لا تستند على منهج علمي في فهم ثقافات و اديان الشعوب. حيث قال المسيري في تحليله للمسألة اليهودية: "ان الحديث عن اليهود بشكل عام او بأعتباهم كتلة متماسكة هو امر غير مجد ، واننا ما دمنا نستخدم نموذجا احاديا فلن نفهم شيئا. فنموذج الوحدة يجعلنا نبحث عن عناصر التجانس بين اعضاء الجماعات اليهودية و نهمل عناصر عدم التجانس ، على حين وجدت ان اليهود هم جماعات يهودية وان ما هو غير مشترك بين هذه الجماعات هو اهم بكثير مما هو مشترك ، فكل جماعة تستمد خطابها الحضاري من مجتمعها التي تعيش فيه ، فيهود الولايات المتحدة ليسوا يهود بشكل عام انما هم امريكيون يهود ، و الفلاشاة ليسوا يهود بشكل عام و مطلق وانما هم متأثرون في الخطاب الحضاري في اثيوبيا. لذا ارى اننا في دراستنا للجماعات اليهودية يجب ان لا تكون نقطة البدء التوراة او التلمود او التاريخ اليهودي و انما المحيط الحضاري التي تعيش فيه هذه الجماعات"[xiii]. فيهودية عائلة ماركس ليست يهودية بشكل عام ، لكنها يهودية الالمان في القرن الثامن عشر. و لا يوجد يهود اشرار بشكل عام ، و لا يوجد يهود مضطهدين بشكل عام ، و الديانة لا تحمل خصائص وراثية خاصة.

ان ضعف التحليل الفلسفي عند العقاد هو بسبب ضعفه في فهم التاريخ ، و في فهم المجتمع الذي نشأ فيه ماركس ، فكانت لدى العقاد محاولات كثيرة في تشويه الماركسية ابتداء من تسميتها "مذهب" ، و الماركسية ليست مذهب او دين ، بل هي منهج علمي يستند على دراسة التاريخ المتغير و طرح نموذج للتحرر من اغلال المجتمع الراسمالي. فمن المهم جدا ، ان يتطرق أي ناقد لهيغل ، فمن فهم هيغل يستطيع الناقد ان يفهم ماركس ، فالعقاد لم يتطرق لا الى هيغل و لم يفهم الديالكتيك. بل استند على مراجع مضلله ينتقد فيها هيئة ماركس و سلوكياته ، و اخذ يتحدث عن مواضيع بخصوص الاكل و النظافة ، و اهمل المادة العلمية التي تحظى بها الايدلوجية الماركسية. و انا اريد ان استشهد بأحد المرافقين لماركس عندما وصف ماركس و هو انينكوف: "لقد كان لدى ماركس طاقة عجيبة و عزيمة و قدرة على الاقناع. على الرغم من هيئته الملفتة للنظر من حيث كثافة الشعر و المعطف المتداخل الازارير الا انه احد الاشخاص الذين عندما تراهم لا تستطيع الا ان تحترمهم." و هذا نفس الشخص الذي اقتبس منه العقاد في الحديث عن ما جرى بين ماركس و ويتلنج ، و وصفه العقاد بالاستعلاء و الغرور ، و اقتباسات العقاد اصبحت مألوفة بطابعها المغلوط. بل من اقوال ماركس في الرد على ويتلنج: "ان الثوري الذي لا يقدم مادة علمية او نظرية منهجية هو اذن يؤمن بأن الثورات يجب ان يقودها مجموعة من الوعاظ او الانبياء".

بل و ذهب العقاد ابعد من ذلك ، في التأفف من ماركس الشاب الذي لا يلهو بل يعيش في غرفة مغلقة مليئة بالكتب و تستهويه السياسة و لا يستهويه المرح و حب الحياة. و عندما تحدث عن ماركس الجامعي ، عاد العقاد متأففا من لهو ماركس في الحانات. فلا ادري ، ان قلنا ان ماركس لا يلهو ، قال العقاد ان لديه مشكلة نفسية لانه غير محب للهو ، و ان قلنا بأن ماركس يلهو في الحانات الصاخبة ، اذن اصبح ماركس ايضا على خطأً ، فيبدوا لي بأن لا احد يستطيع ان ينجو من نقد العقاد ، لان ماركس منتقد في كل الحالات. فلقد وصلت الشخصنة الى حد ان العقاد اخذ يحلل ما اذا كان ماركس يستنزف اهله ماديا في شبابه عندما كان جامعيا ، و ما اذا كان يزعج والديه بتغيير التخصصات ، كل تلك الاتهامات هي مضيعة للوقت. لان هذا كله نتاج الحقبة الرومانسية و اثرها على الالمان ، نشأ جيل من الرومانسيين ، يقدرون اللهو و لا يضربون حسابا للمال ، و كان ماركس في حياته هو نتاج لتلك الحقبة و لم يكن شابا متفردا في الحانة او في المكتبة ، بل هذه حياة الالمان في القرن التاسع عشر.



[i] هذه الكتابات هي جزء من مجلّد العقائد و المذاهب ، و لها اهمية كبيرة في ارشيف العقاد
[ii] تاريخ البشر في العالم ، كريس هارمان ، ص 327
[iii] الشيوعية و الانسانية ، العقاد ، ص 33
[iv] الشيوعية و الانسانية ، العقاد ، ص 32
[v]  الشيوعية و الانسانية ، العقاد ، ص 32
[vi] المسألة اليهودية ، كارل ماركس ، عام 1843
[vii] رأس المال ، فرانسيس وين
[viii] ماركس: الرد على فيوربارخ
[ix] الافكار الثورية لدى كارل ماركس ، اليكس كالينيكوس
[x] كارل ماركس: سيرة مختصرة ، لينين
[xi] الشيوعية و الانسانية ، العقاد ، ص 39
[xii] http://www.marxists.org/archive/marx/letters/date/index.htm
[xiii] اليهودية و الصهيونية ، عبد الوهاب المسيري
[xiv] نفس المرجع السابق.
[xv] الادب ، امبيرتو ايكو ، ص 24
[xvi] القوطية هي الـ Gothic ،
[xvii] الادب ، امبيرتو ايكو ، ص 27
[xviii] لقد علّق انجلز على ذلك: "كل مجتمع ما عدا المشاعية البدائية" ، ثم اوضح ذلك في ملاحظة للطبعة 0الانجليزية عام 1888:" كان تاريخ النظام المجتمعي، الذي سبق التاريخ المكتوب كله، أي غير التاريخي، مجهولا تقريبا. ومنذ ذلك الحين (منذ عام 1847)، اكتشف هاكستهاوزن الملكية العامة للأرض في روسيا، وبرهن ماورر على أن هذه الملكية كانت الأساس المجتمعي الذي خرجت منه تاريخيا جميع القبائل الألمانية، ثم تبين تدريجيا أن المشاعية الريفية، مع الملكية الجماعية للأرض، كانت الشكل البدائي للمجتمع، من الهند إلى ايرلندا، وأخيرا تم الكشف عن البنية الداخلية لهذا المجتمع الشيوعي البدائي، بشكلها المميز، من خلال الاكتشاف المجيد لمورغان: اكتشاف الطبيعة الحقّـة للعشيرة (BENS) وموقعها في القبيلة. وبانحلال هذا المتحد البدائي يبدأ انقسام المجتمع إلى طبقات متمايزة تصبح، في النهاية متعارضة"
[xix] البيان الشيوعي ، كارل ماركس و فريدرك انجلز ، ص 1
[xx] كارل ماركس: سيرة مختصرة ، لينين ، ص 8
[xxi] البيان الشيوعي ، كارل ماركس و فريدرك انجلز ، ص 9

هناك تعليق واحد:

  1. لم اقراء ماركس ولا البيان الشيوعي. ولم اقرأ العقاد و لم يكن في حسباني. دوما ما اتمنى ان اجد الوقت و الراحة لأقرأ ماركس و إنجلز و هيغل وكل كتب الفلسفة و السياسة و الاقتصاد و روايات الادب التاريخي و من ثم اجلس القعداء لاسيح و اصلي الفرائض و الواجبات و أتأمل فيما يمكن ان يباين و يدمج من سور القران و تاريخ السيرة لاستوضح و اتقصي ما امكن من تحليل الحاضر من وجهة نظر طبقية ديالكتيكية معاصرة للمتغييرات الزمنية في مجتمعاتنا في المجتمع العربي. و لكن هيهات، طالما و الغربة و ملزماتها من الجد و الكد في اللهو و العمل يظنيني و يحول دون تحقيق تلك المنية.

    لذا هل لنا يا اخ ناجي من دلالات لنحو من نحذو لنتابع و نراقب ما تتمناه؟ من هم الكتاب الذين يكتبون و يفسرون من وجهة نظر علمية طبقية لما يجري في العالم العربي؟ اين و ماهي الوسائل و الروابط و القنوات و السبل للتواصل معكم و مع هؤلاء. ظننت أني لوحدي احبذ هذا السرد، ولكن يبدو أنكم سباقون فيه. فيا حبذا لو تشيرون علي في موارد و صباب هذا الندى.

    تفضل جزيل الشكر و الامتنان و السعادة و الاحترام و التقدير لوجودكم بل لبقائي لان اقرأ لكم فقد اسعفني الحظ ان اكتشف أن في غيري نفسي.

    و سلام الله عليكم و رحمته و بركاته.

    رفيقكم المخلص،
    جاك عبدالحميد نعمان
    jacknuman@gmail.com

    ردحذف