مقدمة:
العولمة هي نظام اقتصادي عالمي تمّ تبنيه من قبل الحكومات الرأسمالية و النخبة في المجتمعات الغربية ، وهو نظام مبني على حرية السوق و تقليص القوانين و الأنظمة التجارية ، وموجة عارمة من الخصخصة. و هي ذات دافع اقتصادي لخفض تكاليف الإنتاج عن طريق البحث عن عمالة ارخص. إن الرأسماليين يحصلون في هذا النظام الجديد على المزيد من الحرية على حساب العالم الثالث و العمال و الفقراء. فهذه العولمة لا تتحدّث عن حرية الانتقال بين الدول و حرية العمل في أي مكان ، بل تتحدث عن عولمة راس المال ، حرية الحركة التجارية التي "لا تضع حقوق الناس في أولوياتها ، بل هي شكل من أشكال الحكم الاستبدادي ، ربما حكم القلّة أو حكم الاحتكارات المؤسس على تحالف محكم بين سلطة الدولة و القطاع الخاص غير الخاضع للمسائلة أمام الشعب"
إن "العولمة" تعتبر من الكلمات الحديثة في قواميس اللغة ، و يتعامل معها بعض الليبراليين و كأنها من المعطيات المقدسة و الحقائق الغير قابلة للنقاش. ومن أوهام العولمة التي يجب أن نخضعها للنقاش و النقد هو "إن السوق العالمي و الشركات العالمية أصبحت في قمّة جبروتها حتى أصبح العامل و الموظف معدوم و غير قادر على المقاومة في أي دولة و في أي قسم من أقسام هذه الشركات العملاقة" ، و إذا واصلنا على نفس التصورات المغلوطة سنجد أن حتى الحكومات فقدت السيطرة تماما أمام هذه الشركات العالمية ، فأصبحت هذه الشركات بقدرة قادر تتحكّم بالدول و الشعوب بشكل مطلق!
و وصل بهؤلاء الاقتصاديين و المنظّرين الليبراليين إلى أن يربطوا بين المنهج الماركسي الاقتصادي و بين نظرية العولمة ، بل إن احد الكتّاب في جريدة الفايننشل تايم كتب مقال يقتبس اقتباس لماركس يبرهن فيه كيف أن ماركس كان من أنصار العولمة ، مع العلم أن ماركس كان يتوقّع حدوث تطوّر الرأسمالية و تحوّلها إلى نظام اقتصادي عالمي ، لكن لم يكن من أنصار الفكرة ، لان أفكار ماركس لم تكن امتدادا طبيعيا للفكر الاقتصادي على الرغم من انه استفاد كثيرا من أفكار كبار الاقتصاديين في عهده أمثال ادم سميث و ريكاردو ، إلا إن من كتابات ماركس الشهيرة هي: " نقد الاقتصاد السياسي " ، فأفكار ماركس هي نقيضه للفكر الاقتصادي و ليست مكمّله له. و من المهم أن نستخدم أمثلة كي نعرف ما هو المقصود بذلك ، و حتى نتطلّع أكثر على الفكر الماركسي و نقده للفكر الرأسمالي ، فعلى سبيل المثال ادم سميث هو من ألف نظرية تقسيم العمل و العمّال و كيفية زيادة الإنتاج إذا ما أصبح لكل عامل دور مكرر كي يتم إنتاج السلعة بطريقة أسرع ، ولم يختلف ماركس مع ادم سميث حول زيادة الإنتاج ، لكنه قال بأن هذا يجعل من العامل نصف إنسان و أن هذه الطريقة غير إنسانية بل آليّة و قمعية و تؤدي إلى اغتراب العامل. بالنسبة إلى ادم سميث و ريكاردو ، البحث عن الربح هو أمر طبيعي و جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان. بالنسبة لكارل ماركس أن مسألة البحث عن الربح ما هي إلا مرحلة من مراحل التاريخ ، و ليس طبيعة بشرية متأصّلة في الإنسان ، بل أن الإنسان متعلّق بالبحث عن الربح لأسباب لها علاقة بالتنافسيّة في السوق الرأسمالي و التنافسيّة الجشعة بين الدول الرأسمالية ، وهذا يُجبر الرأسمالي على ادّخار و تكويم راس المال. فإذا لم ينجح الرأسمالي في محاولاته من تراكم راس المال فسيفشل ،هذا الصراع الضاري بين الرأسماليين من اجل راس المال يدفع تكاليفه العامل، لذا يكافح العامل و يقاوم الرأسماليين كردة فعل. أن العامل لا يتمّ صناعته من قبل النظام بشكل مطلق ، فهو لا يعتبر من الجمادات ، بل هو يرفض التأثيرات الخارجية و يصارعها ، "فهو ليس مجرّد شيء في تاريخ ، بل هو موضوع التاريخ".
هل فقد العامل أهميته في الصراع المحلي؟
أن نظرية العولمة ، التي تعتبر أيدلوجية السوق الحرّ ، تدفع بفكرة القوة للطبقات العليا و تتصوّر أن الطبقة الكادحة هي معدومة من القوة في ظل هيمنة راس المال على العالم. و هذا في الحقيقة هو وهم من الأوهام الرائجة ، ففي ظل الترابط الاقتصادي الوثيق بين الدول و الشركات مما يجعل أي إضراب عمالي في دولة معينّة تؤثر تأثيرا قويا على الدول الأخرى ، مثل ما حدث مؤخرا مع إضرابات العمال في شركة الغاز المصرية مما أدى إلى توقّف تصدير الغاز إلى إسرائيل و الأردن ، و لو توقفوا عمال ارامكوا لتعرّضت الكثير من الدول إلى أزمة كبيرة ، فأصبح الإضراب يلعب دورا بارزا في التأثير على الشركات و الدول الرأسمالية.
هل يصحّ القول بأن بضع الآلاف في دولة ما ، يعملون لدى شركة عالمية عدد موظفيها يتجاوز النصف مليون ، هل ألبضع الآلاف قادرين على مجابهة الشركة العملاقة و المطالبة بالحقوق؟؟ إذا نظرنا لها من المنظور العقلي البحت ، سنستنتج أن هذا مستحيل و غير قابل للتصديق ، أما إذا عدنا إلى التاريخ سنجد أن هناك أمثلة عديدة تبرهن على قوة العامل و قدرته على التغيير. عندما اضرب عن العمل 3000 عامل عام 1996 في مصنع أوهايو في شركة جنرل الكتريك في قسم قطع الغيار: البريكات ، توقفت الشركة عن العمل بالكامل في أمريكا و كندا و المكسيك مما كلّف الشركة 45 مليون دولارا يوميا. عندما حدثت إضرابات عامة في دولة الدنيمارك ، اضطرّت شركة ساب أن تتوقف عن الإنتاج نظرا لان الموردين الدنيماركيين توقفوا عن الإنتاج بسبب الإضرابات العمالية ، مع العلم بأن شركة ساب فلندية. وتأثرت شركة فولفوا بهذه الإضرابات التي وصلت إلى مصانعها في السويد و هولندا. وعندما اضربوا عمال شركة فورد في بريطانيا في عام 1988 ، تأثر إنتاج شركة فورد في أوروبا بالكامل بسبب إضرابات العمال الانجليز ، مما أدى إلى أن توقّفت الشركة عن التوريد لأوروبا لمدة 4 أيام. وهذه الأمثلة أن دلّت على شيء، فأنها تدلّ على أن النظام العالمي الاقتصادي لم يُضعف الطبقة العاملة، بل ازداد تأثير الطبقة العاملة بسبب زيادة المصالح المشتركة بين الدول. أما منطق الرأسماليين في التعامل مع هذه القضية هو مثل منطق الامبرياليين في تعاملهم مع فيتنام قبل الحرب ، عندما قارنوا الاحتلال البريطاني و انتصاراته على الهنود مع ضعف تقنية السلاح في القرن التاسع عشر ، إلا أن الآن أمريكا تملك أسلحة متطورة أكثر بكثير من الانجليز ، و الشعب الفيتنامي اقلّ عددا من الشعب الهندي ، لكن هذا المنطق لم ينجح ، بل فشل فشلا ذريعا ، لان قيمة الجندي البريطاني في السابق اقلّ بكثير من قيمة الجندي الأمريكي الآن ، لقد تغيّرت تكاليف الحروب ، تكلفة قتل جندي أمريكي تصل إلى مليون دولار: مراسم الدفن ، التعويضات ، توظيف بديل ، قيمة التدريب. فما بالك بتكاليف تفجير طائرة إلي تعتبر شيئا باهظا مقارنة بالاستيلاء على البنادق و المدافع الذي كان يحدث مع كل انتصار في معارك القرن التاسع عشر.
الهجرة:
عندما يأتي عامل مهاجر إلى دولة ما يعتبر في نظر المحللين الاقتصاديين الذين يؤمنون بالعولمة أن هذه الهجرة عبارة عن هجوم الأجانب على ثروات البلد و سلب وظائف المواطنين و عملية اكتساح للقوى الوطنيّة الاقتصادية ، بينما عندما تشتري شركة فولكس واجن شركة روز رويز بمبلغ 430 مليون جنيه إسترليني يُنظر على انه نمط اعتيادي من أنماط التجارة العالمية المعترف بها دوليا ، و لكن عندما يتم إجبار العامل على أن يعمل بشكل أسرع تحت ذريعة أو تكتيك: speed-up production ، هذا يعتبر شيء طبيعي في نظر الإعلام و المحللين الاقتصاديين ، أما إذا حاول عامل من العمال أن يقاوم و يرفض أن يزيد من سرعة العمل من دون تعويض حقيقي ، حينها يعتبره الإعلام كشخص مجرم و لا يعرف كيف يحافظ على مستقبله الوظيفي. و تسمع أحيانا في الإعلام الغربي أخبار الراديو: "أخبار جيدة، أرباح الشركة الفلانية زادت بنسبة 15% مقارنة بالسنة الماضية"، وبعد ذلك يصرّح على نفس القناة: "أخبار سيئة، العمال أصبحوا جشعين و يطالبون بزيادة بالرواتب 5% فقط"
أن الرأسماليين يتذمرون باستمرار إلا أنهم في الحقيقة مستفيدين من وجود طبقة من العمال المهاجرين بسبب استفادتهم من الأجور المتدنية ، إلا أنهم يريدون أن يكرّسوا التفرقة بين العمال ، كي يحافظوا أيضا على قيمة أجور المهاجرين ، في حين عندما يحصل المهاجرين على المساواة في الأجور سيخسر الرأسمالي بكل تأكيد. أن الكثير من الدلائل التاريخية تثبت بأن الاشتراكيون الثوار هم القادرون على الدفاع عن العامل بشكل متواصل ، في مواجهة العواصف يصبح الإصلاح غير مجدي ، فهو مثل استخدام مظلّة من الورق – فهي جيدة على شرط أن لا تمطر السماء ، لذا يتوجب علينا أن ندافع عن المهاجرين من العمال و العمال المحليين و عندما يحاولوا أن يقفلوا احد الشركات يجب أن نكافح و نطالب بالملكيّة و حقوقنا ، و هذا ما حدث في شركة فستون مؤخرا ، عندما تمّ إغلاق المصنع لم يقبلوا العمال أن يخرجوا بلا تعويضات ، وعندما لم تصغي لهم الشركة ، احتلوا المصنع و وضعوا عليه الإعلام الحمراء ، حتى اضطرّت الإدارة أن تدفع تعويضات جيدة لكل عامل ، لماذا لم يستخدمون العمال نفس الأسلوب عندما تم إغلاق شركة سما؟ الجواب هو ضعف التنظيم، فالعامل بدون نقابات هو مثل المحارب الأعزل!!
السوق المحلي و نهاية الحكومة المحليّة:
أن 66% من الإنتاج السنوي في أمريكا يستهلك محليا، واكبر 50 شركة عالمية تعتمد على الأسواق المحليّة بنسبة 50%، فالسوق المحلي يلبي نصف احتياجاتها. فإلى أي مدى نحن نعيش في اقتصاد عالمي ، و إلى أي مدى أصبح بمقدور الشركات أن تستغني عن الأسواق والحكومات المحليّة؟؟ هناك علاقة وطيدة بين الحكومة و الشركات العالمية، لذا يستحيل أن يختفي دور الحكومات في تأمين احتياجات الشركات، تلك الاحتياجات التي لا يستطيع توفيرها السوق، مثل: الشرطة، القضاء، قوانين الإقراض، و استقرار العملة المحليّة. لذا فأن دور الحكومة في تأمين احتياجات السوق الرأسمالي يجعل الحاجة إليها ماسة أكثر من الماضي، فلن ينتهي دور الحكومة بكل بساطة. بل على العكس، أن الشركات العالمية تجني أكثر من نصف أرباحها من مكان نشأتها و باقي الأرباح تأتي من السوق العالمي. و أن الحكومات هي التي تدعم العملة، و تتحكم بالسوق سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. و في الحقيقة، أن إنقاذ البنوك على يد الحكومات الغربية في مرحلة الأزمات الاقتصادية هو دليل واضح عن أهمية الدولة في الزمن الحديث.
يجب ان ندرك أن الصراع اخذ شكلا عالميا ، و ان من واجبنا هو تعميم التجربة النضالية للطبقة العاملة و الاستفادة من تجارب العمال في كل ارجاء العالم. أن مع تناقضات النظام الراسمالي يخرج حفّاروا قبرها ، و لن تستطيع ان تستمر الرأسمالية الا بمتصاص دمائنا ، لذا يتوجب علينا التنظيم و المواجهة .. لأن هناك عالم افضل !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق